فى نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، من القرن الماضى، ظهرت مودة "المينى جيب" ثم "الميكرو جيب"، وكانت نساء مصر يسرن فى الشوارع بهذه الملابس، ويرتدين المايوهات العادية والبكينى على كافة الشواطىء، دون أن يضايقهن أو يتحرش بهن أحد!
وأفلام الأبيض والأسود هى تسجيل واضح لكل نواحى الحياة فى مصر فى تلك الفترة.
ومع بداية الأزمة الإقتصادية، وسفر المصريين الى السعودية والخليج سعيا وراء الرزق، بدأت موجة من الفكر الرجعى والسلوك الجاهلى الوهابى تجتاح مصر، وتهاجم كل مظاهر الحضارة كالأدب والفن وغيره.
ولما كانت المرأة هى الشغل الشاغل وربما الوحيد، لأصحاب الفكر الرجعى والسلوك الجاهلى الوهابى؛ كان من الطبيعى أن تحظ بالنصيب الأكبر من هذه الموجة، فهى "حطب جهنم" لأنها كلها عورة، صوتها وشعرها وجسمها، ومن الأفضل بالتالى أن لا تخرج من بيتها الا لضرورة، فاذا خرجت يجب أن تكون بصحبة محرم، وأن تكون مرتدية الحجاب والأفضل النقاب!
فتحولت المرأة الى كائن غريب مختفى!، إما داخل المنزل، أو خارجه داخل أكوام من الملابس، وهذا الكائن يثير بالطبع شهية وشهوة الشبان المتخلفين أخلاقيا وثقافيا، الذين يسعدهم ـ كذكور ـ الفكر الرجعى الجاهلى الوهابى، الذى يؤكد لهم فى كل لحظة، أنهم جنس متفوق يتعاملون مع كائن انثوى، أقل منهم فى كل شىء، "ناقصات عقل ودين"، مما يعطيهم الحق بالتالى فى الاستهانة بهذا الكائن والعبث بكرامته، وليس أدل على ذلك، من احصائيات وزارة الداخلية التى تثبت أن النسبة الأكبر من حالات التحرش وجرائم الاغتصاب، تكون ضد سيدات محجبات بل ومنقبات!
وقد زاد الجاهليون الوهابيون الطين بلة، وأضاء بعضهم الضوء الأخضر للمتحرشين، فلم يوجهوا اليهم أى هجوم، ولم يعترضوا على فعلتهم النكراء، والعجيب الغريب أنهم ـ بدلا من ذلك ـ هاجموا المرأة التى تتعرض للتحرش، بأن وجهوا اليها ـ بوقاحة منقطعة النظير ـ سؤالا إستنكاريا هذا نصه: "وانت نازلة الشارع ليه؟ أقعدى فى بيتك وماحدش ها يتحرش بيكى!"
وهذا السؤال يعنى أن المرأة ليس من حقها أصلا الخروج من بيتها، فاذا لم تسمع الكلام وخرجت، فسوف تتعرض للتحرش، وتكون هى المسئولة مسئولية كاملة عن هذا التحرش!
أما المنحرف الذى تحرش بها، فلا يذكر بأى سوء، بل لا يذكر اطلاقا، وكأنه لم يرتكب أى خطيئة!
ولابد أن نتنبه الى أن هذا السؤال الإستنكارى، وهذا التوبيخ، الموجهين إلى كل امرأة تتعرض للتحرش، يحمل فى طياته تشجيعا واضحا لهؤلاء المنحرفين، على التحرش بأى امرأة فى الشارع، عقابا لها على الخروج من بيتها، وهم هنا لا يرتكبوا أى خطيئة، وإنما يقدموا بهذه الفعلة النكراء، مساعدة فعالة، فى النضال المقدس، من أجل منع المرأة من النزول من بيتها، وإجبارها على البقاء بداخله وعدم الخروج منه!
واذا تخيلنا مجموعة من الشبان العاطلين عن العمل، المتخلفين أخلاقيا وثقافيا، يسيرون فى شارع، بعد أن سمعوا هذا الهجوم، الذى تتعرض له المرأة، التى تخرج من بيتها؛ ثم يجدون امرأة
تسير أمامهم، فإنهم ـ فى الأغلب ـ سيندفعون للتحرش بها!
وهناك فئة أخرى من المتحرشين، ربما كان شبان الإخوان من بينهم، الذين وجدوا أن سلوك التحرش المنحط هذا، سلاحا "سياسيا" شديد الفاعلية، يستطيعون استخدامه مع النساء اللائى يشتركن فى مظاهرات ضدهم، لمنعهن من التظاهر! (تعددت الأسباب، والتحرش واحد!)
وبهذه المناسبة، فإننى أرى أنه لا يجب بتاتا، تبرير خروج المرأة من بيتها، بحجج واهية مثل "رايحة شغلها.. أو مدرستها.. أو تشترى دوا"!
أنا سوف أفترض فرضا حقيقيا نعرفه كلنا: المرأة خرجت الى الشارع، لأنها زهقت من قعدة البيت ونازله تتمشى شوية! هل هناك أى خطأ فى هذا؟ وهل يمنع الاسلام نزول المرأة من بيتها؟
أنا أعرف أن المسلمات الأوائل كن يخرجن فى الغزوات مع الرجال لتمريض الجرحى، بل ويشتركن فى القتال أحيانا، ولم أقرأ أن رسولنا الكريم (صلعم) أو أى صحابى قد استنكر خروج هؤلاء السيدات الفاضلات من بيوتهن أو حاول منعهن!
ومن الطبيعى أيضا أننا لم نسمع عن أى حالات تحرش فى ذلك الزمن!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق